الإثنين 08 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

 المشاركة الفعلية للفقهاء والقضاة في ساحات الجهاد

09 نوفمبر 2020، 10:08 ص

دور الفقهاء في مواجهة الغزو الصليبي

 

علي محمد الصلابي

إن من أبرز الأمثلة على مشاركة أولئك الفقهاء للعساكر النظامية في ساحات القتال للتعبير عن حالة الإيمان المثالية بالجهاد، والدفاع عن الأرض والنفس كانت حالة القاضي أبي محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن صليحة قاضي حصن جبلة، الذي تولى إمارة وقضاء ذلك الحصن بعد وفاة أبيه منصور

عام (494 هـ/1100 م)، وكان ذا خبرة عسكرية جيدة؛ لأنه أحب الجندية، واختار الجند فظهرت شهامته، وقد برزت مواهب ذلك الأمير القاضي عند محاصرة الإفرنج حصن جبلة للاستيلاء عليه عام (494 هـ/1100 م)، واستخدامه لما يسمى اليوم بالحرب النفسية أولاً؛ وذلك عندما خطط بدهاء، لنشر الذعر بين صفوف قوات الفرنج، حيث أظهر: أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام، لمساعدته، مما أثار الذُّعر، والقلق بين عسكر الفرنجة، ورحيلهم فيما بعد. وعندما أدرك الفرنجة حقيقة تلك الخدعة؛ عادوا فحاصروا المدينة مرة أخرى، ولكن كرر ذلك القاضي تلك الحيلة بصورة أخرى، ونشر بين صفوف الصليبيين: أن المصريين قد توجهوا لحربهم ومساعدته هذه المرة، ولذلك تركوا محاصرة ذلك الحصن.

ويبدو أن الفرنجة لم يكن لديهم المعلومات الكافية عن ذلك الحصن، ولا عن عدد قوات ذلك القاضي، وإلا لما تركوا محاصرة ذلك الحصن في المرتين السابقتين، ولكن سرعان ما فطن الفرنجة لتلك الحرب النفسية وأهدافها، فعادوا لمحاصرة الحصن للمرة الثالثة في شهر شعبان عام (494 هـ) ، إلا أن ذلك القاضي أدرك: أن الفرنجة قد عرفوا أساليبه القديمة، ولذلك لجأ إلى أسلوب جديد لمواجهة أولئك الفرنجة بأن: قرر مع النصارى الذين بها في الحصن، واتفق معهم على إرسال وفد منهم إلى الفرنجة للتفاهم حول تسليم الحصن، وإرسال مجموعة من فرسانهم لاستلام الحصن، وأن يبعثوا ثلاثمئة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فوافق الفرنجة على ذلك.

ويبدو: أنَّ القاضي ابن صليحة قد نصب الكمين لهم، فلم يزالوا يرقون في الحبال واحداً بعد واحد، وكلما صار عند ابن صليحة، وهو على السور رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين، فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم.

ورغم ذلك لم يسترح الصليبيون للطعم، والفخ الذي نصبه لهم قاضي جبلة، وتحقيق ذلك النجاح. ولذا قرروا أخذها منه بأية وسيلة، ونصبوا على البلد برج خشب، وهدموا أبراجاً من أبراجه. ولكن ما يملكه ذلك القاضي من الدهاء والحيلة جعله يفطن لذلك الخطر المحدق به؛ حيث لم يركن للهدوء والاستسلام، وإنما بادر إلى وضع خطة ذكية على غرار تلك الخطط الناجحة التي كبدت ذلك الغزو الخسائر، والفشل أكثر من مرة. ولذلك عمل هذه المرة على استدراج الصليبيين في كمين آخر وضعه لهم بخطة محكمة، حيث أحدث ثقوباً في أسوار المدينة. ويبدو أنه كان السور الخلفي، وذلك لتسهيل مهمة خروج مجموعة من جيشه، ونقب في السور نقباً، وعندما خرج القاضي ابن صليحة وجيشه من الأبواب لقتالهم تظاهر بالهزيمة أمامهم، بحيث انطوت الحيلة على أولئك الغزاة الذين لم يفطنوا لها، وبادروا إلى مطاردته حتى أبواب المدينة في الوقت الذي استغل فيه جنده الفرصة في الخروج من تلك الثقوب، والتفوا من حوله، فأتوا الفرنج من ظهورهم، فولوا منهزمين.

إن القاضي ابن صليحة لا بدَّ له وأن اطلع على فنون الحرب، وبعض الأساليب العسكرية الإسلامية، فأسلوب الحرب النفسية ليست جديدة على التراث العسكري الإسلامي في الفترة الصليبية؛ إذ استخدم الرسول الكريم (ص)  ذلك الأسلوب في غزوة الخندق من العام الخامس للهجرة، عندما حفر الخندق وهزم جيوش الأحزاب، وكذلك معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة عندما حول القائد خالد بن الوليد المعركة من الهزيمة إلى النصر على الروم، وذلك باستخدامه الحرب النفسية عن طريق تكثيف الغبار بفرسانه حتى ظن أولئك الروم بوصول الإمدادات إلى المسلمين فولوا منهزمين، وانسحب الجيش الإسلامي من أرض المعركة دون أية خسائر أخرى، وقد طبق تلك الحرب النفسية في العديد من المعارك الأخرى، والتي من بينها معركة اليرموك عام (13 هـ) ، عندما عمل على تقسيم قواته، بحيث جعل الميمنة ميسرة والخلف إلى الأمام وبهذا الأسلوب العسكري التكتيكي أرهب جيوش الروم الكبيرة العدد، وأوقع بهم الهزائم.

تحريض الفقهاء والقضاة على القتال في ساحات المعارك:

تبرز شخصية القاضي أبي الفضل الخشاب قاضي حلب المعروف في هذا المجال، فعندما اشتد الحصار الصليبي على حلب عام (513 هـ/1119 م) ، أقبل القاضي ابن الخشاب يحرض الناس على القتال وهو راكب على فرسٍ وبيده رمح، حيث ألقى فيهم خطبة بليغة، استنهض بها هممهم، وألهب مشاعرهم، فأبكى الناس وعظم في أعينهم، حتى أقدموا على قتال الغزاة، ورغم تمكن الحلبيين من تخليص مدينتهم في ذلك العام لم يتردد الصليبيون من محاولة أخرى لأخذ حلب عام (518 هـ/1124 م) ، وذلك عندما قاموا بتخريب كل القرى المجاورة لحلب، حتى لا يقدموا المساعدة لمدينة حلب، ونزل الفرنج حران، ثم حلب من ناحية مشهد الجف من الشمال، وكان للقاضي ابن الخشاب دور في التحريض على قتال ذلك الغزو، بل كان له دور في تحريض الأمير آق سنقر البرسقي أمير الموصل، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله عند الحديث عن دور أمراء السلاجقة في الموصل ودمشق وغيرها في صدِّ هجمات الصليبيين.

الشعراء ودورهم في حركة المقاومة:

قام بعض الشعراء بدور كبير في تحريض المسلمين ووصف أحوال الأمة وطبيعة الغزو الصليبي الذي احتل

البلاد، وهتك الأعراض، ومن أشهر ما قال هؤلاء ما قاله القاضي الهروي، وقيل لأبي الظهر الأبيوردي القصيدة التي أولها:

مزجنا دماءً بالدموعِ السواجمِ             فـــلمْ يبــــقَ مـــــنا عرضــــــة للمــــراجمِ

وشرُّ سلاحِ المرءِ دمعٌ يفيضه             إذا الحربُ شُبَّت نارها بالصوارمِ

 إنه في هذا المطلع يصرّح ببكاء الناس بكاءً أنزل الدم من العيون لشدته، واستمراره، وأنهم بكوا حتى لم يبق فيهم مجال للذم، ولكنه لا يلبث أن يفطن إلى أن البكاء على شدته لن يغني في شيء في معركة لا يسعِّر نيرانها إلا السيوف القواطع، ومنها:

فإِيهاً بني الإسلامِ إن وراءكــــمْ             وقــــــــائعُ يُـلحقنَ الذُرا بالمنــــــــــاسمِ

أتهــــــــــويمةً في ظلّ أمـــــــن وغبطةٍ             وعيشٍ كنوَّارِ الخمـــــــــيلةِ ناعم

وكيف تنامُ العينُ ملءَ جفونها            على هفـوات أيقظت كلَّ نائمِ

وإخوانكم بالشامِ يُضحي مقيلهُم         ظهورَ المذاكي أو بطونَ القشاعم

تسومــهم الروم الـهــــــــــوانَ وأنتم             تجرون ذيل الخفضِ فعلَ المسالمِ

 وهنا يستصرخ الشاعر المتخلفين عن القتال مع إخوانهم المسلمين في بلاد الشام، فيبدأ هذه المقطوعة بتوجيه نداء حار للمسلمين: إيهاً بني الإسلام أنِ اصحُوا من نومكم، فما دهاكم من الغزو يجعل أعزتكم أذلة، ثم يعجب لهم ولنومهم؛ إذ كيف ينامون ملء عيونهم، ويعيشون عيشاً ناعماً امناً وغير بعيد منهم تجري فظائع الأمور التي تقع على رؤوس إخوانهم من أهل الشام، فلا يجدون وقتاً قصيراً ينامون فيه في بيوتهم، فجلّ أوقاتهم على صهوات خيولهم يحاربون، أو تكتب لهم الشهادة، فتتخطفهم نسور الجو، ولا من يدفن جثثهم، وربما يقعون تحت إذلال أعدائهم من الفرنجة، أما أنتم فيبدو عليكم التقلب في ثبات الـنِّعمة كما أنكم مستسلمون، أو متحالفون مع الأعداء، ومنها:

وكم من دماءٍ قدْ أُبيحت ومِنْ دُمَىً                تواري حيــــــــاءً حسنها بالمعـــــــــــــاصمِ

بحيث السيوف البيض محــــمرة الظبا                وسُمـــــــــــر العوالي دامياتُ اللَّهـــــــــــــاذمِ

وبين اختلاسِ الطعنِ والضربِ وقفة                تظـــــــــــل لها الولدانِ شيــــب القــــــــــــوادمِ

وتلك حروبٌ من يغب عن غمارها                ليسلم يقــــــــــــــرع بعدها ســـنَّ نــــــــــــــــــــادمِ

سَللــــن بأيـــدي المشركــــــين قـــــــواطــــــــعاً                 ستُغْمد منهم في الطُّلا والجمـاجمِ

يـــكـــــــــادُ لـــهـــــــــن المستــــجـــــنُّ بـــــطـــــيبـة                 ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشـمِ

 وفي هذه الأبيات يصور شراسة المعارك التي وقعت بين المسلمين وأعدائهم من الفرنجة، فقد أُبيحت فيها دماء كثيرة من المسلمين، ولقد اقتحم فيها على النساء خدورهن، وما وجدن ما يدفعن به عن أجسامهن المصونة، غير معاصمهن المشتبكة حياءً وخوفاً، وقد اشتدت هذه الحروب، واستحرّ فيها القتل، حتى بدت أسنَّة السيوف والرماح حمراء لاهبة، وحتى إن الصبيان ربما يظهر في شعرهم الشيب لما فيها من هول الطعن والضرب، ثم يعود لتنبيه المتخلفين بأنهم سوف يندمون على تخلفهم عن الاشتراك في هذه الحروب؛ التي يعود ليتحدث عن أخطارها فيهوّن من شأن الأعداء وأسلحتهم، فما استلّوه من سيوف قاطعة تعود إلى نحورهم وجماجمهم. وفي آخر الأبيات يؤكد فظاعة هذه الحروب بأن الرسول (ص)، في ضريحه الطاهر في المدينة يستنجد على الأعداء، بالعرب والمسلمين وليس بال هاشم فحسب:

أرى أمتي لا يُشرعون إلى العــــــــدا                   رماحهم والدين واهي الدعائمِ

ويجتنــــــبون النارَ خوفــــــــاً من الردى         ولا يحسبون العــــــــــــارَ ضربةَ لازمِ

أترضى صناديد الأعاريب بالأذى        ويغضي على ذلٍّ كماة الأعاجمِ؟

فليــــــــتهم إذ لم يـــــذودوا حـــــــــــــمية           عن الدين ضــــــــــــــنوا غيرةً بالمحــــــــــــارمِ

وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى      فهلاَّ أتــــــــــــــوه رغبة في الغنــــــــــــــــــائمِ؟

 ويرى الشاعر قعود بعض بني قومه عن الجهاد، فيتألم لذلك ألماً يصور معه واقعهم المتخاذل عن نصرة دينهم الذي يحاول الأعداء إضعافه جبناً وخوفاً وغفلة عما يلحق بهم من العار في حالـة الهزيمة، ويعجب لشجعان المسلمين من عرب وعجم كيف يقبلون بهذا كله؟! ثم يقلب لهم أسباب الدفاع عن الدين وعن

 

 

البيضة تقليباً منطقياً، فيه الألم الذي يعصر قلبه، والتبكيت الذي يهز أحاسيسهم من الأعماق، فيطالبهم بالدفاع عن الدين أولاً، فإن لم ينهضوا له فليحموا محارمهم من النساء والبلدان والعقار، وهذا أضعف الإيمان أن يهتموا بالدنيا، وعرضها من غنائم وأسلاب إن فقدوا الثأر للدين، والخروج ونيل الشهادة!! وفي نهاية القصيدة يبلغ به الألم مبلغاً أشد فعلاً وتأثيراً، فيكشف لهم عن مستقبل أيامهم، وما يلاقون فيه من إذلال وصغار في أيام أبنائهم الوارثين للخنوع إن قبلوا باحتلال الأعداء لبلادهم، ثم يهددهم بعار تسليم النساء للأعداء إن هم ظلوا على ما هم عليه من الخنوع والجبن والقعود عن الجهاد، ولم يزل الشاعر يستصرخهم والحرب مستعرة، ليغيروا على المعتدين غارة شعواء تلقِّن الفرنجة درساً قاسياً، كما تعوَّدوا في كلِّ مرة يهاجمون فيها بلاد الإسلام

 

 

المصادر والمراجع:

دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي، علي محمد محمد الصلابي، صــ (658/665)

نصوص من أدب عصر الحروب الصليبية، صـ (32).

الكامل في التاريخ، ابن الأثير (8/407)